فصل: (بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا):

(وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ.
وَلَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ، فَالتَّأْخِيرُ إنْ كَانَ لِاخْتِيَارِ السَّتْرِ فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِضَغِينَةٍ هَيَّجَتْهُ أَوْ لِعَدَاوَةٍ حَرَّكَتْهُ فَيُتَّهَمُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِلسَّتْرِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا فَتَيَقَّنَّا بِالْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ، فَحَدُّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَالتَّقَادُمُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى انْعِدَامِ الدَّعْوَى فَلَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُمْ، بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ لِلْمَالِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ فَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا، ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا):
قُدِّمَ أَنَّ الْحَدَّ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَقُدِّمَ كَيْفِيَّةُ الثُّبُوتِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ وُجُودَ مَا ثَبَتَ مِنْهُ بِالْبَيِّنَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَنْدَرُ نَادِرٍ لِضِيقِ شُرُوطِهِ الْمُقْتَضِي لِإِعْدَامِهِ، وَهُوَ أَنْ يُرَى ذَكَرُ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ.
وَأَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ الزِّنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَمْ يُحَدُّوا إلَّا بِالْإِقْرَارِ، فَقُدِّمَ مَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَمَا كَانَ الثُّبُوتُ بِهِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعِنْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً) فَقولهُ مُتَقَادِمٌ إسْنَادُهُ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى ضَمِيرِ السَّبَبِ: أَيْ مُتَقَادِمٌ سَبَبُهُ وَهُوَ الزِّنَا مَثَلًا وَهُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ.
وَقولهُ شَهِدُوا بِحَدٍّ تَسَاهُلٌ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَشْهَدُونَ بِسَبَبِ الْحَدِّ، وَالتَّقَادُمُ صِفَةٌ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَقولهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ إلَخْ جُمْلَةٌ فِي مَحَلِّ جَرٍّ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ وَهِيَ حَدٌّ، وَالْفَاعِلُ بَعْدَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْبُعْدُ عُذْرًا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ خَوْفِ طَرِيقٍ وَلَوْ مِنْ بُعْدِ يَوْمَيْنِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الْمُسَارَعَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ عِبَارَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى زِيَادَاتٍ مُفِيدَةٍ، وَهِيَ قولهُ (وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ) ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَقَرَّ هُوَ بَعْدَ حِينٍ بِذَلِكَ أُخِذَ بِهِ إلَّا الشُّرْبَ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِذَلِكَ فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ بِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا، وَلَا يَخْفَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَاتِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
وَفِي الْعِبَارَةِ تَسَاهُلٌ مَشْهُورٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ الشَّهَادَةُ بِأَسْبَابِهَا ثُمَّ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ الْمُوجِبِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ الْقَدِيمَةِ وَالْإِقْرَارِ بِهَا أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِهَا وَقَبُولُ الْإِقْرَارِ بِمَا سِوَى الشُّرْبِ وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
الثَّانِي رَدُّهَا وَقَبُولُ الْإِقْرَارِ حَتَّى بِالشُّرْبِ الْقَدِيمِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَهُوَ قول مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
الثَّالِثُ قَبُولُهُمَا وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
الرَّابِعُ رَدُّهُمَا، نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِقَلْبِ قول مُحَمَّدٍ، وَاسْتُدِلَّ لِلشَّافِعِيِّ وَالْآخَرَيْنِ بِإِلْحَاقِهِ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُمَا حُجَّتَانِ شَرْعِيَّتَانِ يَثْبُتُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْحَدُّ، فَكَمَا لَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالتَّقَادُمِ كَذَا الشَّهَادَةُ وَبِحُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَلَنَا وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَعْدَ التَّقَادُمِ شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ وَشَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ مَرْدُودَةٌ.
أَمَّا الْكُبْرَى فَلِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ» أَيْ مُتَّهَمٍ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ قَال: «أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ».
وَأَمَّا الصُّغْرَى فَلِأَنَّ الشَّاهِدَ بِسَبَبِ الْحَدِّ مَأْمُورٌ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: السَّتْرُ احْتِسَابًا لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، أَوْ الشَّهَادَةُ بِهِ احْتِسَابًا لِمَقْصِدِ إخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ لِلِانْزِجَارِ بِالْحَدِّ، فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ عَلَى الْفَوْرِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ السَّتْرِ وَإِخْلَاءِ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ طَلَبُهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَزِمَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا الْفِسْقُ، وَإِمَّا تُهْمَةُ الْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْأَصْلِ اخْتَارَ الْأَدَاءَ وَعَدَمَ السَّتْرِ ثُمَّ أَخَّرَهُ لَزِمَ الْأَوَّلُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اخْتَارَ السَّتْرَ ثُمَّ شَهِدَ لَزِمَ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ بِاخْتِيَارِ أَحَدِهِمَا، فَانْصِرَافُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الشَّهَادَةِ مَوْضِعُ ظَنِّ أَنَّهُ حَرَّكَهُ حُدُوثُ عَدَاوَةٍ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفِسْقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا التُّهْمَةِ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ فَلَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ إذْ لَمْ يُوجِبْ تَحَقُّقَ تُهْمَةٍ، وَبِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِيهَا فَتَأْخِيرُ الشَّاهِدِ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فِسْقٌ وَلَا تُهْمَةٌ، وَفِي الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَتَوَقَّفَ عَلَى الدَّعْوَى كَغَيْرِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالتَّقَادُمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الدَّعْوَى مَانِعًا مِنْ الرَّدِّ بِالتَّقَادُمِ لَزِمَ فِي السَّرِقَةِ أَنْ لَا تُرَدَّ الشَّهَادَةُ بِهَا عِنْدَ التَّقَادُمِ لِاشْتِرَاطِ الدَّعْوَى فِيهَا لَكِنَّهَا تُرَدُّ.
أَجَابَ أَوَّلًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ السَّرِقَةَ فِيهَا أَمْرَانِ الْحَدُّ وَالْمَالُ، فَمَا يَرْجِعُ إلَى الْحَدِّ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِاعْتِبَارِ الْمَالِ تُشْتَرَطُ، وَالشَّهَادَةُ بِالسَّرِقَةِ لَا تَخْلُصُ لِأَحَدِهِمَا بَلْ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْأَمْرَيْنِ، فَاشْتُرِطَتْ الدَّعْوَى لِلُزُومِ الْمَالِ لَا لِلُزُومِ الْحَدِّ، وَلِذَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِهَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ وَلَا نَقْطَعُهُ لِأَنَّ الْحَدَّ يَبْطُلُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا أَنَّهُ إذَا شَهِدُوا بِهَا عَلَى إنْسَانٍ وَالْمُدَّعِي غَائِبٌ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُدَّعِي لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْقَذْفِ لَا يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى يَحْضُرَ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الْخَالِصَةِ، وَإِنَّمَا لَا يُقْطَعُ قَبْلَ حُضُورِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سَرَقَ مِلْكَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَضَمُّنِ الشَّهَادَةِ بِالسَّرِقَةِ الشَّهَادَةَ بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَالشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِإِنْسَانٍ يَتَوَقَّفُ قَبُولُهَا عَلَى حُضُورِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْمِلْكِ وَدَعْوَاهُ، فَإِذَا أُخِّرَ رَدَدْنَاهُ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا الْمَالِ بَلْ أَلْزَمْنَاهُ الْمَالَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: زَنَيْت بِفُلَانَةَ أَوْ قَلَبَهُ وَهِيَ غَائِبَةٌ لَا يَدْرِي جَوَابَهَا يُحَدُّ، وَلَا يُسْتَأْنَى بِالْحَدِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ هُنَاكَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَا تُعْتَبَرُ، وَفِي السَّرِقَةِ لَا تَثْبُتُ أَصْلًا إلَّا بِثُبُوتِ الْمَالِ، وَلَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا بِالدَّعْوَى، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ لِلتُّهْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ فِي غَيْبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الشُّبْهَةُ لِأَنَّ الثَّابِتَ احْتِمَالُ أَنْ يَقول هُوَ مِلْكُهُ، وَقولهُ هُوَ مِلْكُهُ لَيْسَ شُبْهَةً بَلْ حَقِيقَةُ الْمُبَرِّئِ، بِخِلَافِ دَعْوَاهَا النِّكَاحَ مَثَلًا لَوْ حَضَرَتْ لِأَنَّهُ نَفْسُ الشُّبْهَةِ فَاحْتِمَالُهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَجَابَ ثَانِيًا بِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ بِالتَّقَادُمِ لَمَّا كَانَ لِلتُّهْمَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَأُقِيمَ التَّقَادُمُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ مَقَامَهَا فَلَا يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى وُجُودِ التُّهْمَةِ وَعَدَمِهَا، كَالرُّخْصَةِ لَمَّا كَانَتْ لِلْمَشَقَّةِ وَهِيَ غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ أُدِيرَ عَلَى السَّفَرِ فَلَمْ يُلَاحَظْ بَعْدَ ذَلِكَ وُجُودُهَا وَلَا عَدَمُهَا فَتُرَدُّ بِالتَّقَادُمِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ بِالتَّقَادُمِ لَيْسَ إلَّا لِلتُّهْمَةِ، وَمَحَلُّ التُّهْمَةِ ظَاهِرٌ يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إنَاطَتِهِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ تَشْبِيهُهُ بِالْمَشَقَّةِ مَعَ السَّفَرِ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ أَمْرٌ خَفِيٌّ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ فَلَا تُمْكِنُ الْإِنَاطَةُ بِهِ فَنِيطَ بِمَا هُوَ مُنْضَبِطٌ، فَالْعُدُولُ لِلْحَاجَةِ لِلِانْضِبَاطِ وَلَا حَاجَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
فَإِنْ قُلْت: فَظَاهِرُ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ مَعَ رَدِّ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْحَدِّ فِيمَا لَوْ عَلِمَ الْمُدَّعِي بِالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَدَّعِ إلَّا بَعْدَ حِينٍ فَشَهِدُوا فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ بِتَأْخِيرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَا يُقْطَعُ بَلْ يَضْمَنُ الْمَالَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ تُهْمَةٌ فَالرَّدُّ يُضَافُ إلَيْهَا، وَمَا لَمْ يَكُنْ فَإِلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا قَالَ قَاضِي خَانَ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ فِي السَّرِقَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَا لِتُهْمَةٍ فِي الشُّهُودِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطُ الْقَبُولِ بَلْ لِخَلَلٍ فِي الدَّعْوَى، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَالِ كَانَ مُخْبِرًا فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا أُخِّرَ فَقَدْ اخْتَارَ السَّتْرَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَالْحَدُّ بَلْ بَقِيَ لَهُ حَقُّ دَعْوَى الْمَالِ فَقَطْ فَيُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ؛ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى السَّرِقَةِ يُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ.اهـ.
فَيُجْعَلُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِيمَا إذَا كَانَ تَأْخِيرُ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِ صَاحِبِ الْمَالِ بِالسَّرِقَةِ، أَمَّا لَوْ أُخِّرُوا لَا لِتَأْخِيرِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِهِ وَعِلْمِهِمْ بِعِلْمِهِ بِإِعْلَامِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ شَهِدُوا فَالْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَهُوَ قولهُ (وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ، وَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا) يَقْتَضِي أَنْ تُرَدَّ فِي حَقِّ الْمَالِ أَيْضًا لِلْفِسْقِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا بَعْدَ التَّقَادُمِ تَثْبُتُ التُّهْمَةُ الْمَانِعَةُ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْحَدِّ، لَكِنَّ السَّارِقَ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ لِعَدَمِ تَأْخِيرِ الدَّعْوَى بَعْدَ عِلْمِهِ فَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ.
قولهُ: (ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ) وَقول زُفَرَ هُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ بِعُذْرِ هَرَبِهِ وَقَدْ زَالَ الْعُذْرُ (وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ) أَيْ الِاسْتِيفَاءَ (مِنْ الْقَضَاءِ) بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ حُقُوقِ غَيْرِهِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اسْتِنَابَتُهُ تَعَالَى الْحَاكِمَ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِلَا شُبْهَةٍ فَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ، أَوْ هُوَ هُنَا إذْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ الْقَضَاءِ حَتَّى جَازَ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ بِهِ، بِخِلَافِهِ فِي حُقُوقِ غَيْرِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ فِيهَا لِإِعْلَامِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِحَقِّيَّةِ حَقِّهِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ اسْتِيفَائِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُمَا فَإِنَّمَا هُوَ فِي حُقُوقِهِ تَعَالَى اسْتِيفَاؤُهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قِيَامُ الشَّهَادَةِ شَرْطًا حَالَ الِاسْتِيفَاءِ، كَمَا هُوَ شَرْطٌ حَالَ الْقَضَاءِ بِحَقِّ غَيْرِهِ إجْمَاعًا، وَبِالتَّقَادُمِ لَمْ تَبْقَ الشَّهَادَةُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ الِاسْتِيفَاءُ فَانْتَفَى، وَهَذَا رَدُّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، فَإِنَّ كَوْنَ قِيَامِ الشَّهَادَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ شَرْطًا صَحِيحٌ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْنَى قِيَامِهَا، فَعِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَطْرَأْ مَا يَنْقُضُهَا مِنْ الرُّجُوعِ هِيَ قَائِمَةٌ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا ثُمَّ غَابُوا أَوْ مَاتُوا جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَعِنْدَنَا قِيَامُهَا بِقِيَامِهِمْ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَالْحُضُورِ.
ثُمَّ قَدْ يُقَالُ لَوْ سَلِمَ تَرَجَّحَ هَذَا لَكِنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَبْطُلُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَدَاءِ لِلتُّهْمَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ الشَّهَادَةُ بِلَا تَقَادُمٍ وَوَقَعَتْ صَحِيحَةً مُوجِبَةً فَاتِّفَاقِ تَقَادُمِ السَّبَبِ بِلَا تَوَانٍ مِنْهُمَا لَا يَبْطُلُ الْوَاقِعُ صَحِيحًا، وَلَوْ قُلْنَا: إنَّ رَدَّهَا أُنِيطَ بِالتَّقَادُمِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى التُّهْمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ كَوْنُهُ أُنِيطَ بِتَقَادُمٍ عَنْ تَوَانٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ وَإِلَّا فَمَمْنُوعٌ، وَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي هَذِهِ الْقولةَ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

متن الهداية:
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ، وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ.
وَالتَّقَادُمُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ، وَأَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ حَيْثُ قَالَ شَهِدُوا بَعْدَ حِينٍ) وَقَدْ جَعَلُوهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمْ فِي الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حِينًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْهُ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: جَهَدْنَا بِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُقَدِّرَهُ لَنَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَمَا يَرَاهُ بَعْدَ مُجَانَبَةِ الْهَوَى تَفْرِيطًا تَقَادُمٌ، وَمَا لَا يُعَدُّ تَفْرِيطًا غَيْرُ تَقَادُمٍ، وَأَحْوَالُ الشُّهُودِ وَالنَّاسِ وَالْعُرْفِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِنَظَرٍ نُظِرَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ فِيهَا تَأْخِيرٌ فَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ) عَلَى مَا فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ لَا يَحْنَثُ وَبَعْدَهُ يَحْنَثُ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ) وَمَأْخَذُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِمَّا فِي الْمُجَرَّدِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي الشُّهُودَ مَتَى زَنَى بِهَا فَقَالُوا مُنْذُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ أُقِيمَ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالُوا شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ دُرِئَ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ النَّاطِفِيُّ: فَقَدَّرَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِشَهْرٍ وَهُوَ قول أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (وَهَذَا) أَعْنِي كَوْنَ الشَّهْرِ فَصَاعِدًا يَمْنَعُ قَبُولَهَا (إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَاضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ) بَعْدَ الشَّهْرِ (لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ) فَقَدْ نَظَرَ فِي هَذَا التَّقَادُمِ إلَى تَحَقُّقِ التُّهْمَةِ فِيهِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَرِيبٍ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أُنِيطَ بِالتَّقَادُمِ لَا يُرَاعَى وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ الْمَانِعُ الْبُعْدَ أَوْ الْمَرَضَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ حَتَّى تَقَادَمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّقَادُمُ الْمُنَاطَ بِهِ بَلْ هُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَذِهِ الْمَوَانِعُ مِنْ الشَّهَادَةِ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ فِي الْمَعْنَى إلَى اعْتِبَارِ التَّقَادُمِ الْمُنَاطِ بِهِ مَا يَلْزَمُهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفِسْقِ وَالتُّهْمَةِ، ثُمَّ هَذَا التَّقَادُمُ الْمُقَدَّرُ بِشَهْرٍ بِالِاتِّفَاقِ فِي غَيْرِ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَمَّا فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ (وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ) فَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ بَعْدَهَا لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُمَا، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا، وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ) أَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِغَائِبَةٍ يُحَدُّ الرَّجُلُ بِإِجْمَاعِهِمْ لِحَدِيثِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِغَائِبَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَرَحِمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَنَقَلَ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقول أَوَّلًا: لَا يُحَدُّ حَتَّى تَحْضُرَ الْمَرْأَةُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَحْضُرَ فَتَدَّعِيَ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ مِنْ نِكَاحٍ مَثَلًا وَنَحْوِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قول الْكُلِّ، وَسَيَظْهَرُ وَجْهُ بُطْلَانِ الْقول الْأَوَّلِ (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَالدَّعْوَى شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ) لِلْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالسَّرِقَةِ تَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالشَّهَادَةُ لِلْمَرْءِ عَلَى الْمَرْءِ لَا تُقْبَلُ بِلَا دَعْوَى وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِثُبُوتِ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقِصَاصِ إذَا كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ لَيْسَ لِلْحَاضِرِ اسْتِيفَاؤُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ فَيُقِرَّ بِالْعَفْوِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ بِزِنَا الْغَائِبَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ.
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ الثَّابِتُ فِي صُورَةِ الْقِصَاصِ نَفْسُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ احْتِمَالُ الْعَفْوِ فَإِنَّ الْعَفْوَ لَيْسَ شُبْهَةً بَلْ حَقِيقَةُ الْمُسْقِطِ فَاحْتِمَالُهُ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ لَوْ كَانَ الْعَفْوُ نَفْسُهُ شُبْهَةً فَيَكُونُ احْتِمَالُهُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ، بِخِلَافِ الْغَائِبَةِ فَإِنَّ نَفْسَ دَعْوَاهَا النِّكَاحَ مَثَلًا شُبْهَةٌ، فَاحْتِمَالُ دَعْوَاهَا ذَلِكَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، وَاعْتِبَارُهَا بَاطِلٌ وَإِلَّا أَدَّى إلَى نَفْيِ كُلِّ حَدٍّ فَإِنَّ ثُبُوتَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَاَلَّذِي يَثْبُتُ بِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، وَكَذَا الشُّهُودُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعُوا، فَلَوْ اُعْتُبِرَتْ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ انْتَفَى كُلُّ حَدٍّ.
وَجْهُ أَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ أَنَّ نَفْسَ رُجُوعِ الْمُقِرِّ وَالشَّاهِدِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَذِبَهُ فِي الرُّجُوعِ فَاحْتِمَالُ الرُّجُوعِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ (وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ حُدَّ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمَتُهُ أَوْ امْرَأَتُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ) فَلَوْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَأَيْتُمُوهَا مَعِي لَيْسَتْ زَوْجَتِي وَلَا أَمَتِي لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ، وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ لَيْسَ إقْرَارًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ فَلَا يُحَدُّ، وَأَمَّا مَا قِيلَ وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا فَبِمَرَّةٍ لَا يُقَامُ الْحَدُّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَرْبَعًا حُدَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا حُدَّ) لِأَنَّهُ لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ تُزَفَّ إلَيْهِ.
قُلْنَا: الْإِنْسَانُ كَمَا لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ حَالَ الِاشْتِبَاهِ، فَلَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا كَانَ فَرْعُ عِلْمِهِ أَنَّهَا لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ بِزَوْجَتِهِ الَّتِي لَمْ تُزَفَّ، وَصَارَ مَعْنَى قولهِ لَمْ أَعْرِفْهَا: أَيْ بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا وَلَكِنْ عَلِمْتُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَكَانَ هَذَا كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ فَكَانَ قولهُ لَا يَعْرِفُهَا لَيْسَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قول زُفَرَ (وَقَالَا: يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُوجِبِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا.
وَلَهُ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا.
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَصَارَا خَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ) حَاصِلُهَا أَنَّهُ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ إلَّا أَنَّ رَجُلَيْنِ قَالَا اسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَيْنِ قَالَا طَاوَعَتْهُ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَهُوَ قول زُفَرَ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَقَالَا: يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً لِاتِّفَاقِهِمْ) أَيْ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ، كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ الْأَحْسَنُ وَفِي غَالِبِهَا لِاتِّفَاقِهِمَا: أَيْ الْفَرِيقَيْنِ، وَعَلَيْهِ قولهُ (وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ) أَيْ تَفَرَّدَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ مِنْهُ (هِيَ الْإِكْرَاهُ) وَهُوَ لَا يُوجِبُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ (بِخِلَافِ جَانِبِهَا لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَثْبُتْ) إذْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَتَعَارَضُوا، فَعَدَمُ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا لِمَعْنًى غَيْرِ مُشْتَرِكٍ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ كَمَا لَوْ زَنَى بِصَغِيرَةٍ مُشْتَهَاةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَرَّرَهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَقَالَ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ اثْنَانِ عَلَى تَقْدِيرٍ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ طَائِعَةً؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ: أَيْ الزِّنَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبَاشِرٌ لَهُ فَكَانَا مَشْهُودًا عَلَيْهِمَا فَيَجِبُ الْحَدَّانِ، وَوَاحِدٌ عَلَى تَقْدِيرٍ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً فَإِنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ فَيَجِبُ حَدٌّ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً لِلزِّنَا حُكْمًا، وَلِهَذَا لَا تَأْثَمُ بِالتَّمْكِينِ مُكْرَهَةً، فَاخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ أَوْرَثَ اخْتِلَافَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَاخْتِلَافُ الْفِعْلِ مِنْ أَقْوَى الشُّبْهَةِ.اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِهِ عَنْ الرَّجُلِ لَيْسَ إلَّا اخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِذَلِكَ فَكَوْنُهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ عَلَى اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ بِنِصَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِحَدِّهِ عِنْدَهُمَا، وَلَا فَائِدَةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي إيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ، بَلْ الَّذِي يُفِيدُهُ اخْتِلَافُ الْفِعْلِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَاشْتِغَالُهُ بِزِيَادَةِ كَلَامٍ لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يُفِيدُ فِي الْمَقْصُودِ فَائِدَةَ بَعِيدٍ، وَكَوْنُهُ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ مَشْهُودًا عَلَيْهَا مَعَهُ، وَالْفَرْضُ أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ وَهُوَ طَوَاعِيَتُهَا غَيْرُ ثَابِتٍ، فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَفْرُوضٌ فَرْضًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا، وَلِذَا حَمَلَ شَارِحُ لَفْظَةِ عَلَيْهِ عَلَى بِهِ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ فِي الْكَافِي فَقَالَ: وَلَهُ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ اخْتَلَفَ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا: أَيْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا الِاخْتِلَافُ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي جَانِبِهَا فَيَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي جَانِبِهِ ضَرُورَةً يَعْنِي أَنَّ الزِّنَا بِطَائِعَةٍ غَيْرُ الزِّنَا بِمُكْرَهَةٍ وَشَهَادَتُهُمْ بِزِنًا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ وَالشَّاهِدَانِ بِزِنَاهُ بِطَائِعَةٍ يَنْفِيَانِ زِنَاهُ بِمُكْرَهَةٍ وَالْآخَرَانِ يَنْفِيَانِ زِنَاهُ بِطَائِعَةٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ عَلَى خُصُوصِ الزِّنَا الْمُتَحَقِّقِ فِي الْخَارِجِ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ.
وَقول الْمُصَنِّفِ يَقُومُ بِهِمَا لَا يُرِيدُ قِيَامَ الْعَرْضِ بَعْدَ فَرْضِ أَنَّهُ وَاحِدٌ بِالشَّخْصِ بَلْ إنَّهُ يَتَحَقَّقُ قِيَامُهُ، أَيْ وُجُودُهُ بِهِمَا.
قولهُ: (وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ) لَمَّا انْدَرَأَ الْحَدُّ عَنْهَا (صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا) بِالزِّنَا (فَصَارَا خَصْمَيْنِ لَهَا) وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُحَدَّا حَدَّ الْقَذْفِ، لَكِنْ سَقَطَ بِشَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ بِزِنَاهُ مُكْرَهَةً، فَإِنَّ الزِّنَا مُكْرَهًا يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَالْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّهَا سَقَطَتْ فِي حَقِّهِ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِ الْفِعْلِ فَصَارَ عَلَى زِنَاهُ شَاهِدَانِ فَلَا يُحَدُّ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَ فِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَجِبْ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مُخْرِجٌ لِكَلَامِهِمْ عَنْ كَوْنِهِ قَذْفًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا لَكِنْ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ أَسْقَطَاهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ خِلَافًا لِزُفَرَ لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصُّورَةِ وَالْمَرْأَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ إلَخْ) أَيْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا اثْنَانِ مِنْهُمْ شَهِدَا أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْكُوفَةِ وَالْآخَرَانِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ (دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ) لِأَنَّ الزِّنَا بِالْكُوفَةِ لَيْسَ هُوَ الزِّنَا بِالْبَصْرَةِ (وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ) وَهُوَ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ (وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ) لِلْقَذْفِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ، فَعِنْدَهُ يُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَمَّا لَمْ يَتَكَامَلْ بِكُلِّ زِنًا صَارُوا قَذَفَةً، كَمَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً شَهِدُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ.
قُلْنَا: كَلَامُهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَتَمَّ الْعَدَدُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ شُبْهَةَ الِاتِّحَادِ فِي نِسْبَةِ الزِّنَا لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَصِيغَةُ الشَّهَادَةِ ثَابِتَةٌ وَبِذَلِكَ حَصَلَ شُبْهَةُ اتِّحَادِ الزِّنَا الْمَشْهُودِ بِهِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ عَنْهُمْ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الزِّنَا شُبْهَةً أَوْجَبَتْ الدَّرْءَ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَفِي الْقَذْفِ شُبْهَةٌ أَوْجَبَتْ الدَّرْءَ عَنْ الشُّهُودِ.
قَالَ قَاضِي خَانَ: وَكَلَامُنَا أَظْهَرُ لِقولهِ تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} وَقَدْ وُجِدَ الْإِتْيَانُ بِأَرْبَعَةٍ.

متن الهداية:
(وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) مَعْنَاهُ: أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَى فِي زَاوِيَةٍ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتِ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ. وَمَعْنَاهُ أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَا فِي زَاوِيَةٍ وَهَذَا) أَعْنِي حَدَّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ (اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدُّوا) لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً، وَبِهِ يَخْتَلِفُ الْفِعْلُ الْمَشْهُودُ بِهِ فَتَصِيرُ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا مِنْ الْبَلَدَيْنِ وَالدَّارَيْنِ، وَالْقِيَاسُ قول زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ حَيْثُ نَسَبُوهُ إلَى بَيْتِ وَاحِدٍ صَغِيرٍ إذْ الْكَلَامُ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَبِيرِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَعْيِينُهُمْ زَوَايَاهُ وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهَا لَا يُوجِبُ تُعَدَّدَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْبَيْتَ إذَا كَانَ صَغِيرًا وَالْفِعْلُ وَسَطَهُ فَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ فَيَقول: إنَّهُ فِي الزَّاوِيَةِ الَّتِي تَلِيهِ، بِخِلَافِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا فَكَانَ كَالدَّارَيْنِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ صُورَةً لَا حَقِيقَةً أَوْ حَقِيقَةً وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ، بِأَنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ ثُمَّ صَارَ إلَى أُخْرَى بِتَحَرُّكِهِمَا عِنْدَ الْفِعْلِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفُوا نَقْلَهُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَائِمٌ فِي الْبَلْدَتَيْنِ.
نَعَمْ إنَّمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِأَنْ يَقولوا مَثَلًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْوَجْهُ مَا اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَوْفِيقٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهُوَ احْتِيَاطٌ فِي الْإِقَامَةِ وَالْوَاجِبُ دَرْؤُهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَشْرُوعٌ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ التَّعْطِيلِ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ قُبِلُوا مَعَ احْتِمَالِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى زِنَاهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ، وَقَبُولُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِ الزِّنَا الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاخْتِلَافُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي هَذِهِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَشْرُوعٌ فِي كُلٍّ مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمَنْصُوصِ وَالْمَسْكُوتِ.
وَمِنْ الْأَوَّلِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ أَوْ فِي أَنَّهَا بَيْضَاءُ أَوْ سَمْرَاءُ أَوْ عَلَيْهَا ثَوْبٌ أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ تُقْبَلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا شَهِدُوا، فَاخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةِ، فَإِنَّ هَذَا التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ كُرْهًا وَانْتِهَاؤُهُ طَوَاعِيَةً.
قَالَ فِي الْكَافِي: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ كُرْهًا إذَا كَانَ عَنْ إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَا يَجِبُ وَبِالنَّظَرِ إلَى الِانْتِهَاءِ يَجِبُ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَهُنَا بِالنَّظَرِ إلَى الزَّاوِيَتَيْنِ يَجِبُ فَافْتَرَقَا.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا) أَمَّا عَنْهُمَا فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِالنُّخَيْلَةِ) بِالنُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ تَصْغِيرُ نَخْلَةٍ مَكَانٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ يُقَالُ بَجِيلَةٌ بِالْبَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْجِيمِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ بِالْيَمَنِ (وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، أَمَّا عَنْهُمَا فَلِلتَّيَقُّنِ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ) إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فَلَا يَجِبُ حَدُّهُمَا بِالشَّكِّ، وَأَمَّا فِي الشُّهُودِ فَلِلتَّيَقُّنِ بِصِدْقِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَلَا يُحَدُّونَ بِالشَّكِّ، فَلَوْ كَانَ الْمَكَانَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ يُقَالُ لِوَقْتٍ مُمْتَدٍّ امْتِدَادًا عُرْفِيًّا لَا أَنَّهُ يَخُصُّ أَنَّ ظُهُورَهَا مِنْ الْأُفُقِ، وَيَحْتَمِلُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ.
وَدَيْرُ هِنْدٍ: دَيْرٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَهِنْدٌ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ كَانَتْ تَرَهَّبَتْ وَبَنَتْ هَذَا الدَّيْرَ وَأَقَامَتْ بِهِ، وَخَطَبَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَيَّامَ إمَارَتِهِ عَلَى الْكُوفَةِ فَقَالَتْ: وَالصَّلِيبُ مَا فِي رَغْبَةٍ لِجَمَالٍ وَلَا كَثْرَةِ مَالٍ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَخِرَ بِنِكَاحِي فَيَقول: نَكَحْت بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِلَّا فَأَيُّ رَغْبَةٍ لِشَيْخٍ أَعْوَرَ فِي عَجُوزٍ عَمْيَاءَ؟ فَصَدَّقَهَا الْمُغِيرَةُ وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَدْرَكْت مَا مَنَّيْت نَفْسِي خَالِيًا ** لِلَّهِ دَرُّك يَا ابْنَةَ النُّعْمَانِ

فَلَقَدْ رَدَدْت عَلَى الْمُغِيرَةِ دَهْيَةً ** إنَّ الْمُلُوكَ ذَكِيَّةُ الْأَذْهَانِ

إنِّي لِحَلِفِك بِالصَّلِيبِ مُصَدِّقٌ ** وَالصَّلْبُ أَصْدَقُ حَلْفَةِ الرُّهْبَانِ

وَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُهَا فَسَأَلَهَا يَوْمًا عَنْ حَالِهَا فَقَالَتْ:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا ** إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَنْتَصِفُ

فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا ** تُقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتُصَرَّفُ

ذَكَرَ هَذَا ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ عَلَى الْقَصِيدَةِ الْمَنَازِلِيَّةِ لِلشَّرِيفِ الرَّضِيِّ الَّتِي أَوَّلُهَا:
مَا زِلْت أَطْرُقُ الْمَنَازِلَ بِاللَّوَى ** حَتَّى نَزَلْت مَنَازِلَ النُّعْمَانِ

عِنْدَ قولهِ:
وَلَقَدْ رَأَيْت بِدَيْرِ هِنْدٍ مَنْزِلًا ** أَلْمَى مِنْ الضَّرَّاءِ وَالْحِدْثَانِ

أَغْضَى كَمُسْتَمِعِ الْهَوَانِ تَغَيَّبَتْ ** أَنْصَارُهُ وَخَلَا عَنْ الْأَعْوَانِ

بَالِي الْمَعَالِمِ أَطْرَقْت شُرُفَاتُهُ ** إطْرَاقَ مُنْجَذِبِ الْقَرِينَةِ عَانِ

وَذَكَرْت مَسْحَبَهَا الرِّيَاطَ بِجَوِّهِ ** مِنْ قَبْلِ بَيْعِ زَمَانِهَا بِزَمَانِ

وَبِمَا تَرُدُّ عَلَى الْمُغِيرَةِ دَهْيَهُ ** نَزْعَ النَّوَارِ بَطِيئَةَ الْإِذْعَانِ

وَالنَّوَارُ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الرِّيبَةِ، يُقَالُ نَارَتْ الْمَرْأَةُ تَنُورُ نُورًا إذَا نَفَرَتْ عَنْ الْقَبِيحِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ)؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النِّسَاءَ نَظَرْنَ إلَيْهَا فَقُلْنَا إنَّهَا بِكْرٌ، وَشَهَادَتُهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إيجَابِهِ فَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ) بِأَنْ نَظَرَ النِّسَاءُ إلَيْهَا فَقُلْنَ هِيَ بِكْرٌ (دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا) أَيْ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا (وَعَنْهُمْ) أَيْ وَيُدْرَأُ حَدُّ الْقَذْفِ عَنْ الشُّهُودِ وَهُوَ أَحَدُ قوليْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ تُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ، أَمَّا الدَّرْءُ عَنْهُمَا فَلِظُهُورِ كَذِبِ الشُّهُودِ إذْ لَا بَكَارَةَ مَعَ الزِّنَا، وَقول النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَتَثْبُتُ بَكَارَتُهَا بِشَهَادَتِهِنَّ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ الْحَدِّ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ لَمْ تُعَارِضْ شَهَادَتُهُنَّ شَهَادَتَهُمْ تَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِنَّ بَكَارَتُهَا، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الزِّنَا لِجَوَازِ أَنْ تَعُودَ الْعُذْرَةُ لِعَدَمِ الْمُبَالَغَةِ فِي إزَالَتِهَا فَلَا يُعَارِضُ شَهَادَةَ الزِّنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ، وَإِنْ عَارَضَتْ بِأَنْ لَا يَتَحَقَّقَ عَوْدُ الْعُذْرَةِ يَجِبُ أَنْ تَبْطُلَ شَهَادَتُهُنَّ لِأَنَّهَا لَا تَقْوَى قُوَّةَ شَهَادَتِهِمْ.
قُلْنَا: سَوَاءٌ انْتَهَضَتَ مُعَارَضَةٌ أَوْ لَا لَا بُدَّ أَنْ تُورَثَ شُبْهَةٌ بِهَا يَنْدَرِئُ، وَلِذَا يَسْقُطُ بِقولهِنَّ هِيَ رَتْقَاءُ أَوْ قَرْنَاءُ وَيَقِلُّ فِي ذَلِكَ قول امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ لِقولهِنَّ فَقولهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ لَا فِي إيجَابِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يُقْطَعْ بِكَذِبِهِمْ لِجَوَازِ صِدْقِهِمْ وَتَكُونُ الْعُذْرَةُ قَدْ عَادَتْ لِعَدَمِ الْمُبَالَغَةِ فِي إزَالَتِهَا بِالزِّنَا أَوْ لِكَذِبِهِنَّ.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ) وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَالُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحَدُّ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَلَمْ تَثْبُتْ شُبْهَةُ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ (وَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ وَهُمْ فُسَّاقٌ أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لَمْ يُحَدُّوا)؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ وَإِنْ كَانَ فِي أَدَائِهِ نَوْعُ قُصُورٍ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ.
وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ يَنْفُذُ عِنْدَنَا، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا، وَبِاعْتِبَارِ قُصُورٍ فِي الْأَدَاءِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ يَثْبُتُ شُبْهَةُ عَدَمِ الزِّنَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ الْحَدَّانِ، وَسَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ كَالْعَبْدِ عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ يُحَدُّ الشُّهُودُ وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ) الْأَصْلُ أَنَّ الشُّهُودَ بِاعْتِبَارِ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ أَنْوَاعٌ: أَهْلٌ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْعَدْلُ.
وَأَهْلٌ لَهُمَا عَلَى وَجْهِ الْقُصُورِ كَالْفُسَّاقِ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَمُقَابِلُ الْقِسْمَيْنِ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ وَلَا لِلْأَدَاءِ وَهُمْ الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ وَالْكُفَّارُ.
وَأَهْلٌ لِلتَّحَمُّلِ لَا الْأَدَاءِ كَالْمَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ وَالْعُمْيَانِ.
فَالْأَوَّلُ يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ وَتَثْبُتُ الْحُقُوقُ بِهَا، وَالثَّانِي يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهَا لِيَظْهَرَ صِدْقُهُ أَوْ لَا فَلَا، وَالثَّالِثُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا حَتَّى لَمْ يُعْتَبَرْ فِيمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لِلْأَدَاءِ فَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِمَا وَشَهَادَتِهِمَا، وَالرَّابِعُ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا فَصَحَّ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الْعُمْيَانِ وَالْقَذَفَةِ وَلَوْ شَهِدُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَدَمُ الْحَدِّ لِلزِّنَا ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ: أَيْ الْعُمْيَانِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ كَالْمَالِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهَا مَا لَا يَثْبُتُ مَعَهَا مِنْ الْحُدُودِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعُمْيَانَ وَالْمَحْدُودِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْأَدَاءِ، وَالْعَبْدَ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ أَيْضًا فَلَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ فَصَارُوا قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ، بِخِلَافِ الْفُسَّاقِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى الزِّنَا لَا يُحَدُّونَ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلُوا لِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلْأَدَاءِ مَعَ قُصُورٍ، حَتَّى لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ نَفَذَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فَاحْتَطْنَا فِي الْحَدِّ فَسَقَطَ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الثُّبُوتِ وَعَنْ الشُّهُودِ لِثُبُوتِ شُبْهَةِ الثُّبُوتِ، وَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ.

متن الهداية:
(وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا)؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَخُرُوجِ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ بِاعْتِبَارِهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ) بِأَنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَأَقَلَّ (حُدُّوا) حَدَّ الْقَذْفِ: يَعْنِي إذَا طَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَتَوَقَّفَ عَلَى طَلَبِهِ، وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ لِقولهِ تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَحِينَ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعُ بْنُ عَلْقَمَةَ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَلَمْ تَكْمُلْ بِشَهَادَةِ زِيَادٍ حُدَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثَّلَاثَةُ الشُّهُودِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَالْأَرْبَعَةُ إخْوَةٌ لِأُمٍّ وَاسْمُ أُمِّهِمْ سُمَيَّةُ.
وَأَمَّا وَجْهُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّفْظَ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ قَذْفٌ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْقَذْفِ إذَا اُعْتُبِرَ شَهَادَةً، وَلَا يُعْتَبَرُ شَهَادَةً إلَّا إذَا كَانُوا نِصَابًا.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ وُجِدَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ)؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ الشُّهُودُ ثَلَاثَةٌ (وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَرْشُ الضَّرْبِ، وَإِنْ رُجِمَ فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: أَرْشُ الضَّرْبِ أَيْضًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إذَا كَانَ جَرَحَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مِنْ الضَّرْبِ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ.
لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ مُطْلَقُ الضَّرْبِ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْجَارِحُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ إلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ تَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْجَلْدُ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ، فَلَا يَقَعُ جَارِحًا ظَاهِرًا إلَّا لِمَعْنًى فِي الضَّارِبِ وَهُوَ قِلَّةُ هِدَايَتِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ إلَخْ) حَاصِلُهَا أَنَّهُ إذَا حُدَّ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ جَلْدًا فَجَرَحَهُ الْحَدُّ أَوْ مَاتَ مِنْهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ إيَّاهُ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُ الشُّهُودِ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ أَعْمَى أَوْ كَافِرًا فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ حِينَئِذٍ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمَتَى كَانُوا أَقَلَّ حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: أَرْشُ الْجِرَاحَةِ وَدِيَةُ النَّفْسِ فِيمَا إذَا مَاتَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْحَدُّ الرَّجْمَ فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَحَدُ الشُّهُودِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ اتِّفَاقًا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ) يَعْنِي بَعْدَ مَا ضُرِبَ فَجُرِحَ أَوْ مَاتَ (لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ) أَرْشَ الْجِرَاحَةِ إنْ لَمْ يَمُتْ وَالدِّيَةَ إنْ مَاتَ.
وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ كُلَّ الْحُسْنِ لَفْظ وَعَلَى هَذَا هُنَا لِأَنَّ مِثْلَهُ يُقَالُ إذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهَا كَالْخِلَافِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ هُوَ أَنَّ الْأَرْشَ وَالدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ وَهُنَا عِنْدَهُمَا عَلَى الشُّهُودِ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: الْأَرْشُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْحَاكِمِ.
قولهُ: (لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مُطْلَقُ الضَّرْبِ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْخَارِجُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ) الْجُرْحُ وَالْمَوْتُ (إلَى شَهَادَتِهِمْ) فَصَارُوا كَالْمُبَاشِرِينَ لِمَا أَوْجَبُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ فَرُجُوعُهُمْ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ جُنَاةٌ فِي شَهَادَتِهِمْ، كَمَنْ ضَرَبَ شَخْصًا بِسَوْطٍ فَجَرَحَهُ أَوْ مَاتَ، وَكَشُهُودِ الْقِصَاصِ وَالْقَطْعِ إذَا رَجَعُوا، هَذَا إذَا رَجَعُوا.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَرْجِعُوا بَلْ ظَهَرَ بَعْضُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا إلَخْ وَهُوَ مَا أَرَادَ بِقولهِ وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بِجِنَايَتِهِمْ فَيَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّهُ الْآمِرُ لَهُ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ عِنْدَ صِحَّةِ الْأَمْرِ فَكَأَنَّهُ ضَرَبَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ، وَفِيهِ يَكُونُ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ الَّتِي لَحِقَتْهُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ لَهُمْ فِي مَالِهِمْ، وَصَارَ الْجُرْحُ وَالْمَوْتُ مِنْ الْجَلْدِ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ إذَا قَضَى بِهِ، فَإِنَّ الضَّمَانَ عِنْدَ ظُهُورِ الشُّهُودِ مَحْدُودِينَ أَوْ عَبِيدًا إلَخْ فِي بَيْتِ الْمَالِ اتِّفَاقًا.
قولهُ: (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ هُوَ الْحَدُّ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ) فَتَضَمَّنَ هَذَا مَنْعَ قولهِمَا: الْوَاجِبُ مُطْلَقُ الضَّرْبِ، وَقولهُمَا فِي إثْبَاتِهِ: إنَّ الِاحْتِزَازَ عَنْ الْجَارِحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ مَمْنُوعٌ بَلْ مُمْكِنٌ غَيْرُ عَسِرٍ أَيْضًا (وَلَا يَقَعُ جَارِحًا إلَّا لِحَرْقِ الضَّارِبِ وَقِلَّةِ هِدَايَتِهِ وَتَرْكِ احْتِيَاطِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ) فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الشُّهُودِ وَلَا الْقَاضِي، بِخِلَافِ الرَّجْمِ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ وَمَصْلَحَةُ عَمَلِهِ لِلْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُوجِبُ ضَرَرِ خَطَئِهِ عَلَيْهِمْ فِي مَا لَهُمْ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ.
أَمَّا الْجَلْدُ الْجَارِحُ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ فَيَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْجَلَّادِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، فَلَوْ ضَمَّنَّاهُ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ الْغَرَامَةُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْقَاضِي لِتَثْبُتَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَمْ تَجِبْ أَصْلًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَقولهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ قول فَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ فَلَهُ وَجْهٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهَذَا الْوَجْهِ بَلْ بِضَرْبٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا كَاسِرٍ وَلَا قَاتِلٍ، فَإِذَا وُجِدَ فِعْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
رَجَعَ مُتَعَدِّيًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَهَذَا أَوْجَهُ مِنْ جَعْلِهِ احْتِرَازًا عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْوَاقِعِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ) لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا (فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ فَشَهِدُوا عَلَى الْمُعَايَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا) مَعْنَاهُ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ قَدْ رُدَّتْ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالتَّحْمِيلِ، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ.
وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ لِمَا فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ (مِنْ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ) لِتَحَقُّقِهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي تَحْمِيلِ الْأُصُولِ، وَفِي نَقْلِ الْفُرُوعِ، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَالْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحَدُّ بِهَا إذَا تَكَامَلَتْ شُرُوطُهَا، وَنَحْنُ بَيَّنَّا زِيَادَةَ الشُّبْهَةِ وَهِيَ، وَإِنْ لَمْ تُمْنَعْ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَلْزَمَ الْقَضَاءَ بِمُوجِبِهَا فِي الْمَالِ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِهَا فِي الْجُمْلَةِ اعْتِبَارُهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ صَحِيحَةٌ لِذَلِكَ وَلَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْحُدُودِ لِزِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ زِيَادَةِ مِثْلِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ مُعْتَبَرَةٌ إلَّا فِي الْحُدُودِ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ رَدُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِنْ الشَّهَادَةِ كَمَا رُدَّتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهَا، وَلِأَنَّهَا بَدَلٌ وَاعْتِبَارُ الْبَدَلِ فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ لَا فِيمَا يُحْتَاطُ فِي إبْطَالِهِ (فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ) يَعْنِي الْأُصُولَ (فَشَهِدُوا بِالْمُعَايَنَةِ) بِنَفْسِ مَا شَهِدَ بِهِ الْفُرُوعُ مِنْ الزِّنَا فَعِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا (لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ الْأُصُولِ قَدْ رَدَّهَا الشَّرْعُ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّهِ شَهَادَةَ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ الْحَادِثَةِ) الَّتِي شَهِدَ بِهَا الْأُصُولُ (إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ) فَصَارَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا (ثُمَّ لَا يُحَدُّ الشُّهُودُ) الْأُصُولُ وَلَا الْفُرُوعُ (لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ) فَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ قَذْفًا، غَيْرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الشُّهُودِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ فَكُلَّمَا رَجَعَ وَاحِدٌ حُدَّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَغَرِمَ رُبْعَ الدِّيَةِ) أَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَ الْحَقِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْقَتْلُ دُونَ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْحَدُّ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّاجِعُ قَاذِفَ حَيٍّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً.
وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ بِهِ تُفْسَخُ شَهَادَتُهُ فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ وَقَدْ انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ فَيَنْفَسِخُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ فَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ (فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حُدُّوا جَمِيعًا وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حُدَّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا فِي حَقِّ الرَّاجِعِ، كَمَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا.
وَقَالَ زُفَرُ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ (فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ (فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ حُدَّا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ) أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ) حَاصِلُ وُجُوهِ رُجُوعِ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ: إمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، أَوْ بَعْدَهُ.
ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ كُلَّهَا، فَذَكَرَ أَوَّلًا مَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ وَهُوَ الرَّجْمُ مَثَلًا، وَأَنَّ حُكْمَهُ أَنَّهُ وَحْدَهُ يَغْرَمُ رُبْعَ الدِّيَةِ.
أَمَّا غَرَامَةُ رُبْعِ الدِّيَةِ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَهَا لِإِتْلَافِهِ بِهَا رُبْعَ النَّفْسِ حُكْمًا فَيَضْمَنُ بَدَلَ الرُّبْعِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْقَتْلُ لَا الْمَالُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ أَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا يُقْتَلُونَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ) قِيلَ وَقَعَتْ الْحَوَالَةُ غَيْرَ رَائِجَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهِ وَأَمَّا حَدُّ الرَّاجِعِ وَحْدَهُ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَحُدُّهُ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَاذِفَ حَيٍّ بِرُجُوعِهِ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ فَيُورَثُ شُبْهَةً، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي وَحُكْمُهُ بِرَجْمِهِ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي إحْصَانِهِ وَلِهَذَا لَا يُحَدُّ الْبَاقُونَ إجْمَاعًا قولهُ: (وَلَنَا إلَخْ) حَاصِلُهُ اخْتِيَارُ الشِّقِّ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ قَذْفُ مَيِّتٍ ثُمَّ نَفَى الشُّبْهَةَ الدَّارِئَةَ لِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ، أَمَّا إنَّهُ قَذْفُ مَيِّتٍ فَلِأَنَّ بِالرُّجُوعِ تَنْفَسِخُ شَهَادَتُهُ فَتَصِيرُ قَذْفًا لِلْحَالِ لَا أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ كَانَتْ قَذْفًا مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا حِينَ وَقَعَتْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً شَهَادَةً غَيْرَ أَنَّ بِالرُّجُوعِ تَنْفَسِخُ فَتَصِيرُ قَذْفًا لِلْحَالِ، كَمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ بَعْدَ سَنَةٍ فَوَقَعَ يَقَعُ الْآنَ لَا أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَقَعَ حِينَ التَّكَلُّمِ بِهِ، وَكَذَا إذَا فَسَخَ وَارِثُ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ مَعَ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْحَالِ لِلْبَائِعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا بَعْدَ الْحَدِّ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِعَ وَغَيْرَهُ قَذَفَةٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَكَانَ عَدَدُ الشُّهُودِ نَاقِصًا فَيُحَدُّونَ، وَإِنَّمَا لَا يُحَدُّونَ مِنْ بَعْدِ الرَّجْمِ عِنْدَ ظُهُورِ أَحَدِهِمْ عَبْدًا لِأَنَّهُ قَذَفَ حَيًّا فَمَاتَ، وَأَمَّا إنَّ كَوْنَهُ مَرْجُومًا لَيْسَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ دَارِئَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ، فَلِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ انْفَسَخَ مَا بُنِيَ عَلَيْهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ بِرَجْمِهِ فِي حَقِّهِ بِزَعْمِهِ وَاعْتِرَافِهِ، فَإِذَا انْفَسَخَ تَلَاشَى فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَكِنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّاجِعِ خَاصَّةً فَلَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ لِأَنَّ زَعْمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِذَا حُدَّ الرَّاجِعُ وَلَمْ يُحَدَّ غَيْرُهُ لَوْ قَذَفَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ قَائِمًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ صَارَ الْمَرْجُومُ غَيْرَ مُحْصَنٍ فِي حَقِّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رُجُوعَ الْوَاحِدِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) أَيْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ (حُدُّوا جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرُ: (يُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ) فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إلَى وُقُوعِهَا قَذْفًا.
فَالرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فَفَسْخُ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً كَالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ (وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ) أَيْ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ (مِنْ الْقَضَاءِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِ الْإِمْضَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ التَّقَادُمِ فَكَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ كَرُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ كَوْنِ الْإِمْضَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ فِيمَا إذَا اعْتَرَضَتْ أَسْبَابُ الْجَرْحِ فِي الشُّهُودِ أَوْ سُقُوطُ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ أَوْ عَزْلُ الْقَاضِي يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ حَدِّ الْقَذْفِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ رُجُوعَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَقَالَ: (وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا) وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَقَالَ زُفَرُ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً) لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَامِلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَتَبْقَى شَهَادَتُهُمْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا (وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ) وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: كَلَامُهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً مَا دَامَ بِصِفَةِ إيجَابِهِ الْقَضَاءَ عَلَى الْقَاضِي وَبِالرُّجُوعِ انْتَفَى فَكَانَ قَذْفًا، وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْقَذْفِ إلَى الشَّهَادَةِ إلَّا بِاتِّصَالِهِ بِحَقِيقَةِ الْقَضَاءِ مِمَّا يُمْنَعُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا قُلْنَا: لَوْ امْتَنَعَ الرَّابِعُ عَنْ الْأَدَاءِ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِسُكُوتِ الرَّابِعِ بَلْ بِنِسْبَةِ الثَّلَاثَةِ إيَّاهُ إلَى الزِّنَا قولا، فَكَذَا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ يُحَدُّ ثَلَاثَتُهُمْ بِقولهِمْ زَنَى.
قولهُ: (فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً) عَطْفٌ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ (فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ) أَيْ بَعْدَ الرَّجْمِ (لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا حَدَّ وَلَا غَرَامَةَ (لِأَنَّهُ بَقِيَ) بَعْدَ رُجُوعِهِ (مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ) وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ سِوَى قول لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ (وَإِنْ رَجَعَ آخَرُ) مَعَ الْأَوَّلِ (حُدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ) وَلِلشَّافِعِيِّ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُمَا إنْ قَالَا: أَخْطَأْنَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا قِسْطُهُمَا مِنْ الدِّيَةِ.
وَفِيهِ وَجْهَانِ: فِي وَجْهٍ خُمُسَاهَا، وَفِي وَجْهٍ رُبْعُهَا كَقولنَا وَلَوْ قَالَا: تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ يُقْتَلَانِ (أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْقَلِبُ قَذْفًا لِلْحَالِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ يَعْنِي عِنْدَ رُجُوعِ الثَّانِي تَنْفَسِخُ شَهَادَتُهُمَا قَذْفًا لِعَدَمِ بَقَاءِ تَمَامِ الْحُجَّةِ بَعْدَ رُجُوعِ الثَّانِي، لَا أَنَّ رُجُوعَ الثَّانِي هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ، (وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ وَالْمُعْتَبَرُ) فِي قَدْرِ لُزُومِ الْغَرَامَةِ (بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ) لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ فَإِذَا الشُّهُودُ مَجُوسٌ أَوْ عَبِيدٌ فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ (وَقَالَا هُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ، لَهُمَا أَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ شَهِدُوا بِإِحْصَانِهِ.
وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ الشَّرْطِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَهِدُوا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَخْبَرُوا، وَهَذَا إذَا أَخْبَرُوا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، أَمَّا إذَا قَالُوا هُمْ عُدُولٌ وَظَهَرُوا عَبِيدًا لَا يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً، وَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا وَقَدْ مَاتَ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَزُكُّوا) أَيْ بِأَنْ قَالَ الْمُزَكُّونَ: هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ عُدُولٌ، أَمَّا لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى قولهِمْ عُدُولٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ بِالِاتِّفَاقِ إذَا ظَهَرُوا عَبِيدًا، فَإِذَا زُكُّوا كَمَا قُلْنَا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُهُمْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا فَإِمَّا أَنْ يَسْتَمِرَّ الْمُزَكُّونَ عَلَى تَزْكِيَتِهِمْ قَائِلِينَ هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ اتِّفَاقًا، وَمَعْنَاهُ بَعْدَ ظُهُورِ كُفْرِهِمْ حُكْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا طَرَأَ كُفْرُهُمْ بَعْدُ، وَإِنْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُونَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَبْقَ لِصُورَةِ الرُّجُوعِ الَّتِي فِيهَا الْخِلَافُ إلَّا أَنْ يَقولوا تَعَمَّدْنَا فَقُلْنَا هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ مَعَ عِلْمِنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ قول الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَقول الْمُصَنِّفِ وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا: تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي بَعْدَ قولهِ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ فِي صُورَةِ الرُّجُوعِ الْخِلَافِيَّةِ قوليْنِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهَذَا الْوَجْهِ أَوْ بِأَعَمَّ مِنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (لَهُمَا أَنَّهُمْ) لَوْ ضَمِنُوا لَكَانَ ضَمَانَ عُدْوَانٍ وَهُوَ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ التَّسَبُّبِ وَعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا التَّسَبُّبُ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِتْلَافِ الزِّنَا وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ وَإِنَّمَا (أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا لَوْ أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ) فَكَمَا لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الْإِحْصَانِ بَعْدَ رَجْمِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِهِ إذَا ظَهَرَ غَيْرَ مُحْصَنٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا السَّبَبَ كَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ الْمُزَكُّونَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَا (إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً) مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ عَلَى الْحَاكِمِ (بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ) لِلْإِتْلَافِ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ مُوجِبِيَّةَ الشَّهَادَةِ لِلْحُكْمِ بِهِ، وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ كَالْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا عَلَى مَا عُرِفَ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا لِتَغْلِيظِهَا بَلْ الزِّنَا هُوَ الْمُوجِبُ فَعِنْدَ الْإِحْصَانِ يُوجِبُهَا غَلِيظَةً لِأَنَّهُ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ فَلَمْ تُضَفْ الْعُقُوبَةُ إلَى نَفْسِ الْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ بَلْ إلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِهِ الشَّهَادَةَ بِثُبُوتِ عَلَامَةٍ عَلَى اسْتِحْقَاقِ تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ، وَالسَّبَبُ وَضْعُ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ، ثُمَّ أَفَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّزْكِيَةِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِأَنْ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ إلَخْ بَلْ ذَلِكَ أَوْ الْإِخْبَارُ كَأَنْ يَقولوا: هُمْ أَحْرَارٌ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ اتِّفَاقًا، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الْمُزَكَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَيَشْتَرِطُ الِاثْنَيْنِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا، وَيَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْإِحْصَانِ ثُمَّ لَا يُحَدُّ الشُّهُودُ حَدَّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا فَمَاتَ وَلَا يُورَثُ اسْتِحْقَاقُ حَدِّ الْقَذْفِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمَنْظُومَةِ قولهُ:
عَلَى الْمُزَكِّينَ ضَمَانُ مَنْ رُجِمَ ** إنْ ظَهَرَ الشَّاهِدُ عَبْدًا وَعُلِمَ

وَأَوْجَبَا ضَمَانَ هَذَا الْمُتْلَفِ ** مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَاعْرِفْ

وَفِي الْمُزَكِّينَ إذَا هُمْ رَجَعُوا ** كَذَا وَقَالُوا عُزِّرُوا وَأُوجِعُوا

وَفِي الْمُخْتَلَفِ مَا يُوَافِقُ مَا فِي الْمَنْظُومَةِ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ الرُّجُوعِ: وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ.
قَالَ فِي الْمُصَفَّى شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ: وَهُنَا إشْكَالٌ هَائِلٌ، فَإِنَّا إنْ أَوَّلْنَا الْمَسْأَلَةَ بِالرُّجُوعِ يَلْزَمْ التَّكْرَارُ، وَإِنْ لَمْ نُؤَوِّلْهَا بِالرُّجُوعِ يَلْزَمْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ هُنَا، وَفِي الشَّرْحِ خِلَافُهُ ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَوَّلَ بِالرُّجُوعِ وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى فِيمَا إذَا ظَهَرَ الشُّهُودُ عَبِيدًا وَرَجَعَ الْمُزَكُّونَ أَيْضًا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ يَعْنِي الَّتِي فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ فِيمَا إذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ فَحَسْبُ وَالتَّفَاوُتُ ظَاهِرٌ.اهـ.
وَعَلَى هَذَا فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ: مَا إذَا ظَهَرُوا عَبِيدًا وَرَجَعُوا، وَمَا إذَا رَجَعُوا فَقَطْ؛ وَأَمَّا تَعْزِيرُهُمْ فَبِاتِّفَاقٍ.
وَقول صَاحِبِ الْمُجْمَعِ: وَلَوْ شَهِدُوا فَزُكُّوا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُزَكِّينَ إنْ تَعَمَّدُوا.
وَقَالَا: فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَلَوْ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ عُزِّرَ، وَإِلَّا يُفِيدَ تَحَقُّقَ الْخِلَافِ فِي الضَّمَانِ فِي مُجَرَّدِ رُجُوعِهِمْ، بَلْ أَفَادَ مُجَرَّدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّعْزِيرِ، فَالْإِشْكَالُ قَائِمٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْظُومَةِ عَلَى مَا مَشَى هُوَ عَلَيْهِ.
وَحَاصِلُ الْجَمْعِ اشْتِرَاطُ الرُّجُوعِ مَعَ الظُّهُورِ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ فَلَا يَنْفَرِدُ الظُّهُورُ بِالتَّضْمِينِ الْخِلَافِيِّ بَلْ الِاتِّفَاقُ أَنَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا سَيُذْكَرُ، وَيَنْفَرِدُ رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ بِالتَّضْمِينِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَهْوَ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ الْعَجَبِ كَوْنَ مُجَرَّدِ رُجُوعِ الْمُزَكِّينَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَا يُذْكَرُ فِي الْأُصُولِ كَالْجَامِعِ وَالْأَصْلِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ) وَفِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً بَعْدُ، وَلِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُبَاحَ الدَّمِ مُعْتَمِدًا عَلَى دَلِيلٍ مُبِيحٍ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَنَّهُ حَرْبِيًّا وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ، وَالْعَوَاقِلُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، وَيَجِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ (وَإِنْ رُجِمَ ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ)؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ إلَخْ) اسْتَوْفَى أَقْسَامَهَا فِي كَافِي حَافِظِ الدِّينِ فَقَالَ: إنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْإِمَامُ بِرَجْمِهِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ يَجِبُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَكَذَا إذَا قَتَلَهُ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ، وَإِنْ قَضَى بِرَجْمِهِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا بَعْدَ الْقَضَاءِ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَحْقُونَ الدَّمَ عَمْدًا، لَكِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَصِرْ مُبَاحَ الدَّمِ وَقَدْ قَتَلَهُ بِفِعْلٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، إذْ الْمَأْمُورُ بِهِ الرَّجْمُ وَهُوَ قَدْ حَزَّ رَقَبَتَهُ فَلَمْ يُوَافِقْ أَمْرَ الْقَاضِي لِيَصِيرَ فِعْلُهُ مَنْقولا إلَيْهِ فَبَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: تَجِبُ الدِّيَةُ بِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ نَفَذَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَحِينَ قَتَلَهُ كَانَ الْقَضَاءُ صَحِيحًا فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ نُفِّذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْإِبَاحَةِ، فَإِذَا نُفِّذَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ تَثْبُتُ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً: يَعْنِي فَيُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ فَصَارَ كَمَنْ قَتَلَ إنْسَانًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ.
وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَتَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَمَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا كَالدِّيَةِ، بِخِلَافِ مَا وَجَبَ بِالصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ حَيْثُ يَجِبُ حَالًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِالْعَقْدِ لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ وَمَا فِي الْكِتَابِ لَا يَخْفَى بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقولهُ: (وَإِنْ رَجَمَ) ضَبَطَهُ الْأَسَاتِذَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ لِيَرْجِعَ ضَمِيرُهُ إلَى الرَّجُلِ فِي قولهِ: فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ، وَيُطَابِقُ قول السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ مَا فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَتَلَهُ رَجْمًا ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْجَلَّادِ إذَا جَرَحَ مِنْ قولهِ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ (كَذَا هَذَا) أَيْ الرَّجُلُ الْقَاتِلُ بِالرَّجْمِ بَعْدَ أَمْرِ الْقَاضِي (بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ) ثُمَّ ظَهَرُوا عَبِيدًا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ كَمَا ذَكَرْنَا (لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ) فَلَمْ يَنْتَقِلْ فِعْلُهُ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَلِهَذَا يُؤَدِّبُهُ عَلَى الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَلَا يُؤَدِّبُهُ هُنَا لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ)؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لَهُمْ ضَرُورَةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَ الطَّبِيبَ وَالْقَابِلَةَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ) أَيْ إلَى فَرْجَيْهِمَا (قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنْصُوصِ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِأَنَّهُ لِضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحِسْبَةِ، وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا يُوجِبُ فِسْقًا كَنَظَرِ الْقَابِلَةِ وَالْخَافِضَةِ وَالْخَتَّانِ وَالطَّبِيبِ.
وَعَدَّ فِي الْخُلَاصَةِ مَوَاضِعَ حِلِّ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ لِلضَّرُورَةِ فَزَادَ الِاحْتِقَانَ وَالْبَكَارَةَ فِي الْعُنَّةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْمَرْأَةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ سَتَرَ مَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالُوا: تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ لِلتَّلَذُّذِ لَا تُقْبَلُ إجْمَاعًا.
وَنُسِبَ إلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إلَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّةَ النَّظَرِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا، وَقُلْنَا: إنَّ النَّظَرَ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا قُلْنَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ) مَعْنَاهُ أَنْ يُنْكِرَ الدُّخُولَ بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثَبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ وَالْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ رُجِمَ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَزُفَرُ يَقول إنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا لَا تُقْبَلُ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ (فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهُوَ فَرْعُ مَا تَقَدَّمَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ) قَالَ الْمُصَنِّفُ: (مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْكِرُ الدُّخُولَ بِهَا بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ) أَيْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ (لِأَنَّ الْحُكْمَ) شَرْعًا (بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ) أَيْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ (وَلِذَا لَوْ طَلَّقَهَا) طَلْقَةً (يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ) وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا بَانَتْ بِالْوَاحِدَةِ الصَّرِيحَةِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُمَا مُقِرَّانِ بِالْوَلَدِ، وَلَوْ ثَبَتَ الدُّخُولُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ثَبَتَ الْإِحْصَانُ، فَإِذَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الشَّرْعِ وَبِإِقْرَارِهِمَا أَوْلَى، وَعَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ وُجُودُ سَائِرِ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ يَدْخُلُ فِيهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا صَحِيحًا، فَمَا عَنْ الْأَئِمَّةِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنْ دُخُولٍ لَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لَيْسَ بِخِلَافٍ؛ لِأَنَّ بِفَرْضِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَا يَكُونُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةِ الْغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ وَلَا مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يَسْتَمِرُّ ظَاهِرًا مُوَلَّدًا عَلَى وَجْهِ الدِّيمَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ كَمَا يُفِيدُهُ قولهُ وَلَهُ امْرَأَةٌ.
قولهُ: (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشُهِدَ عَلَيْهِ إلَخْ) الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ أَنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، إلَّا أَنَّ الْمَبْنِيَّ مُخْتَلِفٌ، فَعِنْدَهُمْ شَهَادَتُهُنَّ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ لَا تُقْبَلُ.
وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ قُبِلَتْ إلَّا أَنَّهُ يَقول: الْإِحْصَانُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَالشَّأْنُ إثْبَاتُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَنَفْيِهِ لِأَنَّهُ الْمَدَارُ فَقَالَ: لِأَنَّ تَغْلِيظَ الْعُقُوبَةِ يَثْبُتُ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ الْمَحْضِ (فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ) وَهُوَ مُحْصَنٌ (أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ زِنَاهُ لَا تُقْبَلُ) مَعَ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْعِتْقِ مَقْبُولَةٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ (لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ فَصَارَ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَى زِنَاهُ إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ، وَلَزِمَ مِنْ أَصْلِهِ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَضْمَنُونَ إذْ كَانَ عَلَامَةً مَحْضَةً (وَلَنَا) فِي نَفْيِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (أَنَّ الْإِحْصَانَ) لَيْسَ إلَّا (عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ) بَعْضُهَا غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَبَعْضُهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ كَالْإِسْلَامِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالدُّخُولِ فِيهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا سَبَبًا لِسَبَبِهِ فَإِنَّ سَبَبَهَا الْمَعْصِيَةُ.
وَالْإِحْصَانُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ مَانِعٌ مِنْ سَبَبٍ لِلْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِضِدِّ سَبَبِهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ وَالشُّكْرُ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْحُكْمِ وَهُوَ مَانِعٌ لِسَبَبِهِ، فَالسَّبَبُ لَيْسَ إلَّا الزِّنَا إلَّا أَنَّهُ مُخْتَلِفُ الْحُكْمِ فَفِي حَالِ الْإِحْصَانِ حُكْمُهُ الرَّجْمُ وَفِي غَيْرِهِ الْجَلْدُ، فَكَانَ الْإِحْصَانُ السَّابِقُ عَلَى الزِّنَا مُعَرَّفًا لِخُصُوصِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالزِّنَا أَعْنِي خُصُوصَ الْعُقُوبَةِ، وَالْعَلَامَةُ الْمَحْضَةُ قَطُّ لَا يَكُونُ لَهَا تَأْثِيرٌ فَلَا تَكُونُ عِلَّةً وَلَا فِي مَعْنَاهَا فَكَيْفَ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا وَظَهَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ مَعَهُ بِالزِّنَا عُقُوبَةٌ غَلِيظَةٌ، وَبِالشَّهَادَةِ يَظْهَرُ مَا ثَبَتَ بِالزِّنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ وَلَا عِلَّةً جَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي إثْبَاتِهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، كَمَا لَوْ شَهِدَتَا مَعَ الرَّجُلِ بِالنِّكَاحِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالدُّخُولِ فِي غَرَضٍ آخَرَ كَتَكْمِيلِ الْمَهْرِ حَتَّى يَثْبُتَ إحْصَانُهُ، ثُمَّ اُتُّفِقَ أَنَّهُ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَلَيْسَ أَنَّهُ يُرْجَمُ كَذَا إذَا شَهِدَتَا بَعْدَ ظُهُورِ الزِّنَا بِهِ، فَكَمَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ لِعَدَمِ كَوْنِهِ سَبَبًا كَذَا بَعْدَهُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِظُهُورِ دَيْنٍ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ فَشَهِدَ اثْنَانِ بِالدَّيْنِ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَا يُضَافُ الْعِتْقُ إلَى الشَّهَادَةِ بِالدَّيْنِ بَلْ إلَى الْمُعَلَّقِ، كَذَا هُنَا لَا يُضَافُ الرَّجْمُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِالْإِحْصَانِ إلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ إلَى الزِّنَا (بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ) عَلَى الذِّمِّيِّ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ (وَإِنَّمَا لَا يُعْتَقُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ) الْعَبْدُ (الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ) فَلَا تَنْفُذُ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَتَغَلَّظُ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ فَتَصِيرُ مِائَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَمْسِينَ.
وَاسْتُشْكِلَ كَوْنُهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْحَدِّ بِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ صَحَّ رُجُوعُهُ كَالزِّنَا وَلِذَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ حِسْبَةً بِلَا دَعْوَى، فَيَجِبُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الشَّهَادَةِ بِهِ الذُّكُورَةُ كَالتَّزْكِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ صِحَّةَ الرُّجُوعِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى كَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ إذَا رَجَعَ عَنْهُ وَلَا مُكَذِّبَ لَهُ فِي سَبَبِ الْحَدِّ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يُكَذِّبُهُ فِي رُجُوعِهِ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْحِسْبَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ إظْهَارِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَانِعُ مِنْ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَيْسَ هَذَا الْقَدْرَ بَلْ كَوْنُهُ سَبَبًا لِأَصْلِ الْعُقُوبَةِ، فَحِينَ ثَبَتَتْ الْعُقُوبَةُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ بِسَبَبِهَا كَانَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ تُسْمَعُ بِلَا دَعْوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَضَمُّنِهِ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ.
فُرُوعٌ مِنْ الْمَبْسُوطِ:
شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ، فَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ فَيُرْجَمُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَثْبُتُ فَلَا يُرْجَمُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا أَوْ أَتَاهَا فَهَذَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الدُّخُولَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ وَيُرَادُ بِهِ الْخَلْوَةُ وَلَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِالشَّكِّ.
وَلَهُمَا أَنَّ الدُّخُولَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ عُرْفًا مُسْتَمِرًّا حَتَّى صَارَ يَتَبَادَرُ مَعَ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالنِّسَاءِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فَلَا إجْمَالَ فِيهِ عُرْفًا فَكَانَتْ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَى الْجِمَاعِ.
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الزِّنَا بِفُلَانَةَ وَأَرْبَعَةٌ غَيْرُهُمْ شَهِدُوا بِهِ بِامْرَأَةٍ أُخْرَى فَرُجِمَ فَرَجَعَ الْفَرِيقَانِ ضَمِنُوا دِيَتَهُ إجْمَاعًا، وَحُدُّوا لِلْقَذْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُحَدُّونَ لِأَنَّ رُجُوعَ كُلِّ فَرِيقٍ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَصَارَ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ كَأَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ ثَابِتٌ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَقول: إنَّهُ عَفِيفٌ قُتِلَ ظُلْمًا وَأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَقَرَّ مَرَّةً بَعْدُ حُدَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ وَقَعَتْ مُعْتَبَرَةً فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِإِقْرَارٍ مُعْتَبَرٍ وَالْإِقْرَارُ مَرَّةً هُنَا كَالْعَدَمِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُحَدُّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ إنْكَارُ الْخَصْمِ وَهُوَ مُقِرٌّ وَلَا حُكْمَ لِإِقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ، وَإِنْ فَسَدَ حُكْمًا فَصُورَتُهُ قَائِمَةٌ فَيُورِثُ شُبْهَةً.